الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ومن بلغ سِنّ الحُلم فلا يقول ذلك؛ لأنه قد بلغ حدّ السعي على نفسه والكسب لها، بدليل قوله تعالى: {حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ} [النساء: 6] الآية.فجعل بلوغ النكاح حدًّا في ذلك.وفي قوله: تقول المرأة إما أن تُطعِمَني وإما أن تُطلِّقني يردّ على من قال لا يفرّق بالإعسار ويلزم المرأة الصبر؛ وتتعلّق النفقة بذمّته بحكم الحاكم. هذا قول عطاء والزُّهريّ.وإليه ذهب الكوفيون متمسّكين بقوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] قالوا: فوجب أن يُنْظَر إلى أن يُوسِر.وقوله تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} [النور: 32] الآية.قالوا: فندب تعالى إلى إنكاح الفقير؛ فلا يجوز أن يكون الفقر سببًا للفُرْقة وهو مندوب معه إلى النكاح.ولا حجة لهم في هذه الآية على ما يأتي بيانه في موضعها.والحديث نصٌّ في موضع الخلاف.وقيل: الخطاب لولِيّ اليتيم لينفق عليه من ماله الذي له تحت نظره؛ على ما تقدّم من الخلاف في إضافة المال.فالوصيّ ينفق على اليتيم على قدر ماله وحاله؛ فإن كان صغيرًا ومالُه كثير اتخذ له ظِئْرًا وحواضنَ ووَسّع عليه في النفقة.وإن كان كبيرًا قدّر له ناعم اللباس وشهيّ الطعام والخدمَ.وإن كان دون ذلك فبِحسَبه.وإن كان دون ذلك فخَشِنَ الطعام واللباس قدر الحاجة.فإن كان اليتيم فقيرًا لا مال له وجب على الإمام القيامُ به من بيت المال؛ فإن لم يفعل الإمام وجب ذلك على المسلمين الأخصِّ به فالأخص.وأُمُّه أخصّ به فيجب عليها إرضاعه والقيامُ به.ولا ترجع عليه ولا على أحد. اهـ. بتصرف يسير.
.قال ابن عاشور: وعدل عن تعدية {ارزقوهم واكسوهم} بـ (مِن) إلى تعديتها بـ (في) الدالّة على الظرفية المجازية، على طريقة الاستعمال في أمثاله، حين لا يقصد التبعيض الموهم للإنقاص من ذات الشيء، بل يراد أنّ في جملة الشيء ما يحصل به الفعل: تارة من عينه، وتارة من ثمنه، وتارة من نتاجه، وأنّ ذلك يحصل مكرّرًا مستمرًّا.وانظر ذلك في قول سَبرة بن عمرو الفَقْعسي:يريد الإبل التي سيقت إليهم في دية قتيل منهم، أي نشرب بأثمانها ونقامر، فإمّا شربنا بجميعها أو ببعضها أو نسترجع منها في القمار، وهذا معنى بديع في الاستعمال لم يسبق إليه المفسّرون هنا، فأهمل معظمهم التنبيه على وجه العدول إلى (في)، واهتدى إليه صاحب الكشاف بعض الاهتداء فقال: أي اجعلوها مكانًا لرزقهم بأن تتّجروا فيها وتتربَّحوا حتّى تكون نفقتهم من الربح لا من صلب المال.فقوله: لا من صلب المال مستدرك، ولو كان كما قال لاقتضى نهيًا عن الإنفاق من صلب المال.وإنّما قال: {وقولوا لهم قولًا معروفًا} ليسلم إعطاؤهم النفقة والكسوة من الأذى، فإنّ شأن من يُخرج المال من يده أن يستثقل سائل المال، وذلك سواء في العطايا التي من مال المعطي، والتي من مال المعطَى، ولأنّ جانب السفيه ملموز بالهون، لقلّة تدبيره، فلعلّ ذلك يحمل ولّيه على القلق من معاشرة اليتيم فيسمعه ما يكره مع أنّ نقصان عقله خلل في الخلقة، فلا ينبغي أن يشتم عليه، ولأنّ السفيه غالبًا يستنكر منعَ ما يطلبُه من واسع المطالب، فقد يظهر عليه، أو يصدر منه كلمات مكروهة لوليّه، فأمر الله لأجل ذلك كلّه الأولياء بأن لا يبتدئوا محاجيرهم بسَيّئ الكلام، ولا يجيبوهم بما يسوء، بل يعظون المحاجير، ويعلّمونهم طرق الرشاد ما استطاعوا، ويذكّرونهم بأنّ المال مالهم، وحفظه حفظ لمصالحهم، فإنّ في ذلك خيرًا كثيرًا، وهو بقاء الكرامة بين الأولياء ومواليهم، ورجاء انتفاع الموالي بتلك المواعظ في إصلاح حالهم حتّى لا يكونوا كما قال: وقد شمل القَول المعروف كلّ قول له موقع في حال مقاله.وخرج عنه كلّ قول منكر لا يشهد العقل ولا الخُلُق بمصادفته المحزّ، فالمعروف قد يكون ممّا يكرهه السفيه إذا كان فيه صلاح نفسه. اهـ. .قال القرطبي: قوله تعالى: {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} أراد تليين الخطاب والوعدَ الجميل.واختُلف في القول المعروف؛ فقيل: معناه ادعوا لهم: بارك الله فيكم، وحاطكم وصنع لكم، وأنا ناظر لك، وهذا الاحتياط يرجع نفعه إليك.وقيل: معناه وعِدوهم وَعْدًا حسنًا؛ أي إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم.ويقول الأب لابنه: مالي إليك مصيره، وأنت إن شاء الله صاحبُه إذا ملكت رشدك وعرفت تصرفك. اهـ..قال الخازن: فصل في أحكام تتعلق بالحجر:وفيه مسائل:المسألة الأولى: الابتلاء يختلف باختلاف أحوال اليتامى:فإن كان ممن يتصرف بالبيع والشراء في الأسواق يدفع إليه شيئًا يسيرًا من المال، وينظر في تصرفه وإن كان ممن لا يتصرف في الأسواق فيختبر بنفقته على أهله وعبيده وأجرائه وتصرفه في أموال داره، وتختبر المرأة في أمر بيتها وحفظ متاعها وغزلها واستغزالها فإذا رأى حسن تدبير اليتيم وحسن تصرفه في الأمور مرار أو غلب على الظن رشده دفع إليه ماله بعد بلوغه ولا يدفع إليه ماله وإن كان شيخًا يغلب عليه السفه حتى يؤنس منه الرشد.المسألة الثانية:قال الإمام أبو حنيفة: تصرفات الصبي العاقل المميز بإذن الولي صحيحة.وقال الشافعي هي غير صحيحة.واحتج أبو حنيفة على قوله بهذه الآية وذلك لأن قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح} يقتضي أن هذا الابتلاء إنما يحصل قبل البلوغ والمراد من هذا الابتلاء اختبار حاله في جميع تصرفاته فثبت أن قوله وابتلوا اليتامى أمر للأولياء بالإذن لهم في البيع والشراء قبل البلوغ أجاب الشافعي بأن قال ليس المراد وابتلوا اليتامى الإذن لهم في التصرف حال الصغر بدليل قوله فإن آنستم منهم رشدًا {فادفعوا إليهم أموالهم} وإنما تدفع إليهم أموالهم بعد البلوغ وإيناس الرشد فثبت بموجب هذه الآية أنه لا يدفع إليه ماله حال الصغر فوجب إن لا يصح تصرفه حال الصغر وإنما المراد من الابتلاء هو اختبار عقله واستكشاف حاله في معرفة المصالح والمفاسد.المسألة الثالثة: في بيان البلوغوذلك بأربعة أشياء اثنان يشترك فيهما الرجال والنساء.واثنان يختصان بالنساء أما اللذان يشترك فيهما الرجال والنساء فأحدهما بالسن فإذا استكمل المولود خمس عشرة سنة.حكم ببلوغه غلامًا كان أو جارية.ويدل عليه ما روى عن ابن عمر قال: عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني.ثم عرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني.أخرجاه في الصحيحين وهذا قول أكثر أهل العلم.وقال أبو حنيفة بلوغ الجارية باستكمال سبع عشرة وبلوغ الغلام باستكمال ثماني عشرة سنة والثاني الاحتلام وهو إنزال المني الدافق سوا أنزل باحتلام أو جماع فإذا وجد ذلك من الصبي أو الجارية حكم ببلوغه لقوله تعالى: {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم} ولقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «خذ من كل حالم دينارًا أما نبات الشعر الخشن حول الفرج فهو يدل على البلوغ» في أولاد المشركين لما روى عن عطية القرظي قال: كنت من سبي قريظة فكانوا ينظرون فمن أنبت الشعر قتل ومن لم ينبت لم يقتل.فكنت ممن لم ينبت وهل يكون ذلك علامة عن البلوغ في أولاد المسلمين؟ فيه قولان: أحدهما أنه يكون بلوغًا كما في أولاد المشركين والثاني لا يكون ذلك بلوغًا في حق أولاد المسلمين لأنه يمكن الوقوف على مواليد أولاد المسلمين والرجوع إلى قول آبائهم بخلاف الكفار فإنه لا يوقف على مواليدهم ولا يقبل في ذلك قول آبائهم لكفرهم فجعل الإنبات الذي هو أمارة البلوغ بلوغًا في حقهم.وأما الذي يختص بالنساء فهو الحيض والحبل فإذا حاضت الجارية بعد استكمال تسع سنين حكم ببلوعها وكذلك إذا ولدت حكم ببلوغها قبل الوضع بستة أشهر لأنها أقل مدة الحمل.المسألة الرابعة: في بيان الرشدوهو أن يكون مصلحًا في دينه وماله فالصلاح في الدين هو اجتناب الفواحش والمعاصي التي تسقط بها العدالة والصلاح في المال هو أن لا يكو مبذرًا والتبذير أن ينفق ماله فيما لا يكون فيه محمدة دنيوية ولا مثوبة أخروية أو لا يحسن التصرف فيغبن في البيع والشراء.فإذا بلغ الصبي وهو مفسد لماله ودينه لم ينفك عنه الحجر ولا ينفذ تصرفه في ماله.وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا كان مصلحًا لماله زال عنه الحجر وإن كان مفسدًا لدينه وإذا كان لما له مفسدًا لا يدفع إليه المال حتى يبلغ خمسة وعشرين سنة غير أنه ينفذ تصرفه قبله والقرآن حجة الشافعي في استدامة الحجر عليه لأن الله تعالى قال: {فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم} أمر بدفع المال بعد البلوغ وإيناس الرشد والفاسق لا يكون رشيدًا وبعد بلوغه خمسًا وعشرين سنة وهو مفسد لماله بالإنفاق غير رشيد فوجب أن لا يجوز دفع المال إليه كما قبل بلوغ هذا السن.المسألة الخامسة: إذا بلغ الصبي أو الجاريةوأونس منه الرشد زال عنه الحجر ودفع إليه ماله سواء تزوج أو لم يتزوج وقال مالك إن كانت امرأة لا يدفع إليها المال ما لم تتزوج دفع إليها مالها ولا ينفذ تصرفها إلا بإذن الزوج ما لم تكبر وتجرب.المسألة السادسة: إذا بلغ الصبي رشيدًا زال عنه الحجرفلو عاد سفيهًا ينظر فإن كان مبذرًا لماله حجر عليه وإن كان مفسدًا في دينه فعلى وجهين: إحدهما أن يعاد عليه الحجر كما يستدام إذا بلغ وهو بهذه الصفة.والثاني لا يحجر عليه لأن حكم الدوام أقوى من حكم الابتداء.وعند أبي حنيفة لا حجر على الحر العاقل البالغ بحال والدليل على إثبات الحجر من اتفاق الصحابة ما روي عن هشام بن عروة عن أبيه أن عبد الله بن جعفر ابتاع أرضًا سبخة بستين ألف درهم فقال علي: لآتين عثمان ولأحجرن عليك فأتى ابن جعفر الزبير فأعلمه بذلك فقال الزبير أنا شريكك في بيعك فأتى علي عثمان فقال احجر على هذا فقال الزبير أنا شريكه فقال عثمان كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير فكان اتفاقًا منهم على جواز الحجر حتى احتال الزبير لدفعه. اهـ.
|